يعمل الدماغ بطرقٍ عجيبة. يُقال أن هدف العلاج النفسي هو فهم الدماغ وما يدور في أعماقه. يختبر بين كابلان الفوائد النسبية للتعبير عما يعتلج في النفس – كما يعالج مسألة التفريق بين الأمور الهامّة والتافهة
إنها الساعة 7:45 صباحاً وأنا على وشك اتخاذ قرار هامّ
لقد أدّيت مناوبتي الصباحية مع الأطفال، وأشعر بالعرق يقطر من ظهري بينما تشتهي كلّ خلية في جسدي أن أصعد للطابق العلوي كي آخذ حماماً. مرّ النهار على أحسن حال. لقد تناول الطفلان طعامهما، وشاهدا فيلم فروزن للمرة العاشرة. كما أنّي تناولت قهوتي، وقرأت صحيفتي. اضطرّتْ زوجتي جولي للنوم لوقت متأخر هذا الصباح، وأنا سأقابل صديقي ديفيد لنذهب في جولةِ جريٍ بعد قليل
ولكنّ ابني ماتيو البالغ سنتان من عمره يرمي ألعابه في أرجاء الغرفة، وابنتي إزمي تبكي لأنها تريد ارتداء فستان إلسا بطلة ذلك الفيلم. جولي تعدّ غداء الطفلة. بدأتُ أشعر بالتوتر، لذا أخذتُ أدندن أغاني للمغنّي هايدن. تنتقد جولي طريقتي الخاطئة في وضع الصحون بعد تنظيفها. وماتيو يرمي ديناصوراته نحو التلفزيون بينما إزمي تريد كعكة أخرى بالفواكه. فأقول لجولي، «إنْ لم تعجبك طريقة ترتيبي للصحون، فرتبيهم أنت بالطريقة التي ترينها مناسبة»، بينما يفرك ماتيو اللّبن على وجهه
فتردّ جولي غاضبة، «يمكنك أن تصعد إلى الطابق العلوي هنا وتترك الأطفال إن شئت»، فأهبّ واقفاً وامسك ماتيو بعنف وآخذه إلى المطبخ لأمسح اللبن عن وجهه، وأخبر إزمي بأنها تناولتْ ما يكفي من كعكة الفواكه وبأنها يجب أن تتناول الفواكه وتتوقف عن البكاء
ثم أصرخ على زوجتي، «بالطبع أستطيع أن أصعد إلى الطابق العلوي، فأنا أفعل ما أشاء، لأني أتمتع بإرادة حرّة»
الساعة الآن 7:49 صباحاً يزداد سلوكي لؤماً وبشاعة، ليفسد صباحاً مثالياً. كانت الأمور تحت السيطرة منذ استيقاظي إلى الخمس دقائق الماضية. عليّ مراجعة طبيبٍ نفسيّ بشأن سؤالٍ جوهري: بحق السماء، لمَاذا لمْ أصعد إلى الطابق العلويّ عند الساعة 7:45 لأوفّر على نفسي عناء الغضب والتوتّر؟
لقد نشأتُ في بيئة من العلاج النفسي – فوالدي طبيب نفسي، وأمي كانت اختصاصية اجتماعية طيلة مسيرتها المهنية، كما أنّ أختي تعمل أيضاً في المجال نفسه. وأغلب أصدقائي سبق أن ترددوا على أطباء نفسيين، لكن لم يَبدُ ذلك ضرورياً بالنسبة لي. ولكن بعد 10 سنوات من الزواج وولدين، أعتقد أنه آن الأوان لخوض هذه التجربة
أشعر بالاستغراب مما أفعل وأقول. هناك حالة انفصال بين ما أريده أن يحدث وما يحدث فعلاً، كما أني أواجه صعوبة بالغة في إيجاد قاعدة شاملة جامعة تدلني على الطريقة الأمثل للتصرف في مختلف الظروف. إنني عدّاء أتدرّب على الجري في الماراثون. لذا أقوم بتدريباتِ السرعة والجري لمسافات طويلة وكل ما يلزم ليزيد من قدرة احتمالي وسرعتي. قد يكون الطب النفسيّ نوعاً من هذا التدريب ولكن لمشاعري وليس لجسدي. أرغب في أن أصبح أقوى على الصعيد العاطفي. أريد أن أعرف ماذا أفعل، وماذا أقول، وكيف أشعر. وهدفي من ذلك يتخطى الصمود لفترة تتجاوز ثلاث ساعات كما في تدريب الماراثون. بل يتعدّى ذلك إلى إيجاد طريقة أفضل للحياة، لأجد السعادة في أن أكون الشخص الذي أريد أن أكونه. هل رغبتي في تمالك نفسي عندما اشعر بالغضب أمر مبالغ فيه؟
كنت شديد الفخر بقراري بمراجعة طبيب نفسيّ . وكانت النصيحة الوحيدة التي وجّهها لي والديّ عندما أخبرتهما بالأمر أن أتأنّى في البحث عن طبيب نفسيّ مناسب. هناك العديد من الأطباء النفسيين، وأستحقّ أن أحصل على طبيب يستطيع تحويل تعاطفه معي إلى تصرّفات تترجم في واقع حياتي
إليك بعض الحقائق عن عالم العلاج النفسي: الطبيب النفسي هو طبيب متدرّب على تشخيص المرض النفسي. أما الأخصائي النفسي فهو لا يحمل شهادة طبية ولا يستطيع أن يصف أدوية، و كلّ منهما يسمّى معالجاً نفسياً. كي تستوعب الأمر، تخيّل الطبيب النفسي على أنّه الدكتورة ميلفي في مسلسل ذا سوبرانوز تتحدّث مع توني سوبرانو زعيم المافيا عن أمّه. ثمّ تخيّل الأخصائي النفسي على أنّه موظّف خدمة اجتماعية يلبس قميصاً داخلياً بالياً في مكتب يطلّ على مطعم بيغال- أر- أص). تتمّ تغطية تكاليف علاج الطب النفسي في أونتاريو، حيث أقيم، من قبل منظمة أونتاريو للتأمين الصحي بينما لا تتم تغطية تكاليف الاستشارات النفسية. لهذا يعتبر اختيار المعالج النفسي أمراً مهماً جداً. تضمّ الجمعيّة الكندية للاستشارات والطب النفسي 5,600 عضواً، مع العلم أنها كانت تضمّ 1,800 عضواً فقط عام 1999. 12% من المواطنين الكنديين يتناولون أدوية مضادة للاكتئاب 10% ذكور؛ و14% إناث
كي ترى طبيباً نفسياً في أونتاريو، عليك الحصول على إحالة من طبيبك العامّ أوّلاً، ومع ذلك عندما ذهبتُ إلى أوّل طبيب نفسي راجعته، قمتُ ببساطة بالاتصال مباشرة بدون الحصول على إحالة. وكان ديفيد، رفيقي في الجري، قد رشّحه لي. عندما رأيته، اعتقدتُ أني أرى الشخصية الكرتونية إلمر فاد، فهو يشبهه كثيراً. يعود ديكور عيادته إلى السبعينيات. جلست على الأريكة المغطاة بغطاء مغبرّ قديم أحدّق بجهاز الفاكس أمامي. لا أصدّق مدى التشابه الكبير بين الطبيب والسلحفاة. إنه بعمر والدي، في منتصف الستينات، وقليل الكلام حتّى أنّي شعرتُ بأني أتحدّث وحدي في الغرفة. تحدّثتُ كثيراً لدرجة مزعجة فاعتذرتُ عن ذلك. لكنه تبنّى لهجتي في الحديث وانتقى عبارات تشبه الكلمات التي كنت أستعملها وقال: «تبدو الحياة أحياناً مزيجاً من الأشياء الصغيرة التافهة والحمقاء». وبدأنا مسيرة العلاج
لقد كانتْ تجربتي الأولى في العلاج النفسي ممتعة ومثيرة. مع أنّي لم أعتقد بجدوى هذه الجلسات من قبل، لكنها مجانية، فمن يرفض جلسات علاج مجّانيّة؟ شعرتُ بأنّي أمضي أكثر في هذا الطريق، ولكنّي لا أعاني من الانهيار النفسي، لذا أليس العلاج النفسي في هذه الحالة أشبه ما يكون بالذهاب إلى قسم الاسعاف بسبب الشعور ببعض الرشح؟
يردّ الطبيب على تساؤلي هذا قائلاً، «إنك لا تحكّ مكاناً في جسدك إن لم يكن يشعرك بالحكة أصلاً، «إذاً لا بد من وجود مبرر ما حتى لو جهلته أنا، علماً أنّ الدكتور ديفيد غولدبلوم هو الرئيس السابق للّجنة الكندية للصحة النفسية، وعضو في المجلس الكندي، ومؤلف كتاب (كيف أساعدك، أسبوع في حياتي كطبيب نفسيّ). زبدة الكلام بالنسبة لغولدبلوم أنّك إن كنتَ تعاني من مشكلة ما، حتى لو لم تكن انفصام شخصية، أو كانت تتلخّص بأنك محبط بسبب قيامك بنفس الأشياء الغبية كل يوم، فيجب أن تسعى للحصول على العلاج، ليس من الضروري أن تكون وودي ألان لتفعل ذلك، لكن على الجميع أن يعتنوا بصحتهم النفسية. «بالتأكيد لا أحد يشعر بكامل الرضا عن مثاليّة الأمور في حياته. تتحكّم عاداتنا بسلوكنا، فنحن محكوم علينا بتكرار أفعالنا، ولكن يتّصف السلوك بالمرونة، ممّا يجعلنا قادرين على الاستفادة من الرأي الاختصاصي.» يمكنك بالطبع أن تتخيّل نفسك في هذه الحياة الواسعة الأفق تعيش حياة أكثر سعادة مما أنت عليه. منذ أن ظهر مسلسل ماد مين تحاول شركات الأدوية، وأعضاء المجتمع الطبيّ، ودجّالي الكتب التي تدّعي منحك القدرة على الحصول على المساعدة الذاتية خلق صناعةٍ جديدة هي صناعة السعادة. فهي توجّه تفكيرك في الإطار التالي: أنا في صحّة نفسية جيدة، لكنّي أحتاج لشخص يجعلني في صحّة أفضل – أريد شخصاً يساعدني على تدريب عقلي بشكل منهجيّ لأكون أفضل
مع أنّي أحببتُ الدكتور سلحفاة، إلا أنه يجعلني متوتراً. يُفترض بالأطباء النفسيين أن يفكروا بعمق، ولكنّي لا أميّز أحياناً إن كان يفكر بعمق أو يأخذ قسطاً من النوم. إنه يشبه أحياناً عمّي لُوْ بعد احتسائه الكثير من المشروبات الكحولية القوية. لقد ساعدني في خوض المفاوضات التي جرتْ مؤخّراً بشأن مرتّبي، كما أنه أشار إلى بعض النقاط الهامّة التي تساعدني على تخيّل حالات لا أرغب فيها فيما إذا حدثت في حياتي. ولكن كان هناك صوت خافت داخل رأسي يخبرني على الدوام بأنه ليس سيجموند فرويد. لذا دبّر لي ديفيد لقاءً مع معالجةٍ نفسية أخرى تشبه كرويلا دو فيل، الشخصية الخيالية القادمة من عالم ديزني. وقد أحزنني نفورها الواضح مني. لقد استجوبتني بشأن أدقّ تفاصيل الأعراض التي أعاني منها خلال حديثنا على الهاتف قبل أن توافق على مقابلتي– وبدون إحالةٍ من طبيب عامّ أيضاً. فاستفسرتْ فيما إذا كنتُ أسيء معاملة زوجتي أو أتعاطى المخدّرات أو إذا كان لديّ علاقات غراميّة. وهل أستيقظ باكراً للذهاب إلى عملي، وهل أضع طفليّ في السرير عند النوم، وعن رغبتي في الامتناع عن التحدث مع نفسي في الحمام أو الامتناع عن قول أشياء غريبة مثل تكرار عبارة «أنا بخير
تعتقد جولي أنني أغنّي أغاني هايدن لإيصال رسائل غير مباشرة لها. لكنّي لا أظنّ ذلك، فأنا لا أريد أن أكون من ذلك النوع من الأشخاص الذين لا يستطيعون التعامل مع انتقاد الآخرين لهم بسبب طريقة نزع أوراق الملفوف مثلاً. سألتني كرويلا فيما إذا كنت على ما يُرام مع الكلاب. أنا لا أحب الكلاب، ولكنّي شعرت أنّي لو أخبرتها بذلك، فلن تقابلني. لقد ارتبط المعالجون النفسيون في ذهني بامتلاك قوة شفاء سحريّة على الدوام، مما جعلني مرغماً أن أبذل قصارى جهدي لأستخلص منهم أكبر كمّ من النصائح والإرشادات. لذا أحاول إرضاءهم بشتّى السبل كي يهتمّوا بحالتي (قد يكون هذا غباءً منّي
لقد علّمتني تجربتي أنّه يمكن الحكم على المعالجين النفسيين من خلال عياداتهم. عندما دخلتُ عيادتها، وجدتها مطلّةً على فناءٍ أخضر، وكان فرش العيادة أبيض اللون، حديث ومعاصر. أوحى لي جوّ العيادة بأنها حققت الكثير من الإنجازات في مسيرتها، ربما كان سبب هذا الشعور نابعاً من المكتبة الدانماركية باهظة الثمن. أخبرتها بأن ضغط الحياة ينهك قلبي. حصلتُ على علاوة في مرتّبي، ولكنّ ذلك لم يشعرني بالراحة. واصطحبت زوجتي في رحلة إلى الكيبيك، ولكنني ما زلت أشعر بأني زوج سيّء. بل وصل بي الأمر إلى استعمال كلمة بذيئة أمام أطفالي. كما أخبرتها عن جلسات العلاج النفسي التي أخضع لها كل يوم جمعة عند ذلك الطبيب الضئيل البنية والذي أجعله ينام كل جلسة
عقدتْ معالجتي النفسية جبينها وفكّرتْ بعمق. إذا كان طبيبي ذاك سلحفاة، فإن طبيبتي هذه أشبه ما تكون بالصقر؛ فهي تقوم بمداخلات خلال حديثي، وتسجّل الملاحظات، وتسأل بعض الأسئلة. ثم قالت لي، «يبدو أنك من الأشخاص الذين يعتمدون على ردّات الأفعال؛ إنّك تشعر بالانزعاج من زوجتك وأطفالك وعملك؛ لكن أين دورك الفعّال في حياتك»؟ إنّ تقديم نفسي لها بصورة الضحيّة أمرٌ محزن. ولكننا بدأنا نتحدّث عن طفولتي وعن الحياة بشكل عامّ، فاستغربتْ أن أسعى للخضوع لعلاج نفسي، فاللاوعي لديّ لا يعاني من أيّ سوء. ثم أخبرتني أنه من المضيعة للوقت أن نمضي الساعة المخصصة لنا في تحليل سبب عدم محبتي للكلاب؛ إذْ أنّي لا أعاني من أي اعتلال نفسي يتطلّب العلاج. وعندما استأذنتها في أن أستعمل الحمام، رفضتْ متعلّلة بأننا على وشك الانتهاء. ثمّ أخبرتني بأنها لن تراني مجدّداً كونها عاجزة عن مساعدتي. رجوتها أن تعدل عن رأيها، لكنها أخبرتني عن التوصيف الطبي لحالتي: «الأصحّاء القلقون» والذي يدلّ على أشخاص يذهبون لرؤية المعالجين النفسيين مع عدم حاجتهم لذلك. إنه يشبه مصطلح «أصحاب مشاكل الحرب العالمية الأولى» (أصحاب المشاكل التافهة). فهمتُ ما قالته تماماً. ولكنّي رجوتها، «لمَ لا تساعديني كي تكون حياتي أفضل»؟ فأجابتني: «لا أعتقد أني أستطيع ذلك
استعملتُ الحمّام وغادرْت. وقبل أن أصل إلى الباب مررت بجانب كلبها الضخم الذي كان يحدّق بي عند الدّرَج. ربما كان من الأفضل لي لو بقيت في منزلي أشرب شرابي المفضّل. لكنتُ على الأقل استطعت دخول الحمام وقت ما أشاء
يخطر على بالي أحياناً فكرة أنني طالما أنظّف الصحون، يجب أن لا أسمع أية انتقادات حول عدم استخدامي أغطية وسائد تتناسب مع شراشف السرير، أو حول الأشياء التي لا أفعلها – كدفع الفواتير، وملاحظة احمرار لون عين ماتيو. لا أريد أن أتحوّل إلى شخص يحمل بطاقة أداء نفسيّة في يده ليدوّن من فعل ماذا، ومن يسجّل نقاطاً أعلى في تلك القائمة، لأن الأشخاص الذين يفعلون ذلك يجدون أنفسهم دوماً متخلّفين عن الآخرين. هناك جزء في داخلي يريد الشفاء من خلال محاولة تغلّبي على إحساسي بالظلم. لا أريد أن يوجّه لي أحد ملاحظات تتعلّق بالحذاء الذي أرتديه. فعندما تنتقد جولي حذائي من ماركة سكيتشرز، أشعر بغضب وإحراج شديدين. لماذا أرتدي حذاءً رياضياً أحمر اللون عند ذهابي إلى الكنيسة؟ هل هو نوع من التمرّد؟ وحتى لو كان تمرّداً على الواقع، عليّ أن لا أتصرّف مثل إزمي عندما لا تستطيع ارتداء فستان إلسا
كانت محطّة علاجي التالية عند جوانا بولي. إنها معالجة فلسفية، وقد تكون أكثر تفهّماً. ظهرت الفلسفة إلى الوجود لتساعد الناس على العيش بشكل جيد، لذا فإنّ ظاهرة العلاج الفلسفي تتنامى باستمرار. إنها تدور حول طرح الأسئلة والبحث عن وجهات نظر جديدة للأمور واستخدام كتب نيتشه وهنري ميلر لتغيير طريقة الناس في التفكير. جوانا حاصلة على شهادة دكتوراه من جامعة تورونتو وشهادة أخرى من جامعة نيويورك معلقة على الجدار كما أنّ أختها نجمة تمثيل كندية شهيرة
لم يكن هناك معالجون فلسفيون مسجّلون رسمياً عام 1995. أمّا الآن فيوجد 11 معالج في كاليفورنيا، وواحد في كالغري، وواحد في فانكوفر، واثنان في أونتاريو. تستضيف جوانا أشخاصاً في صالونها الخاصّ حيث يشربون راب العنب اللذيذ ويدردشون في محاولةٍ «لإخراج الفلسفة من برجها العاجيّ»، كما تقول. والأهم من كل ما سبق، إنها تحتمل سماع الهراء الذي لديّ عندما نجتمع. لقد مرّ على بدء علاجي عندها أربعة أشهر، وما تزال هذه الأشياء الصغيرة التافهة الحمقاء تملؤ نفسي بالبؤس
بعد جلستنا الأولى، كتبتْ لي قائلة، «نحن بحاجة لأن نتحدّث عن الصفات الجديدة التي تريد أن تمتلكها بعد التغيير، لا أن نتحدّث عن الصفات الحالية والتي لا تعجبك». ثم تحدّثنا عن فكرة أرسطو عن العادة، والتي تعبّر عن قدرة الناس على التغيير إن كانوا مستعدّين لدفع الثمن المطلوب من المعاناة». إذا علمتَ أنك ملزم أن تدفع ضريبة الألم لتصل إلى المكان الذي ترغب فيه، فستكون أكثر استعداداً لأن تجبر نفسك على ذلك – وأن تتحمل، ممّا يجعلك الشخص الذي ترغب به يوماً ما. وهذا هو التحكّم بالذات على ما أعتقد
طبعتُ إيميلها على ورقة ووضعت خطوطاً تحت كلماته. وحملته معي خلال جلستنا التالية، وحاولتُ اختباره كلمة، كلمة على أمل إثبات ما جاء فيه. إنها يقظة تماماً، وهذا أمر لا يجوز الاستخفاف به أبداً. في تلك الأثناء بدأت الأمور تتخّذ منحىً آخر مع معالجي الصغير البنية. لقد تجاهلتُ الأمر عندما غفى المرة الأولى. وعوضاً عن انتظار أن يأتيه الإلهام أردتُ أن أعرض عليه غطاء كي لا يبرد خلال نومه. أخبرني والداي بأنّ تصرفي الدّفاعيّ هذا بشع. وعندما غفى للمرة الثانية في جلسة لاحقة، انتظرته حتى يصحو. ولكن عندما نام للمرة الثالثة في جلسة أخرى، اضطررتُ للكشف عن أنيابي واتخاذ إجراء ما، فسألته إن حصل على ما يكفي من النوم الليلة الماضية
لقد نمتُ جيداً الليلة الماضية، لا بدّ أنه الغداء الذي تناولته»
ماذا تناولتَ؟ ديكاً رومياً؟
دجاج
وكان هذا آخر عهدي به. لم أراجع شبيه «إلمر فاد» بعد ذلك أبداً
بعد فترة من الزمن وفي أحد أيام الخميس اهتزّت الأرض تحت قدميّ، وصارت عائلتي في حالة من الفوضى العارمة. شعرتْ جاين، أخت زوجتي، بإرهاق يوم الثلاثاء، ثم ازداد وضعها سوءاً يوم الخميس فأُدخِلتْ وحدة العناية المشدّدة. كانت جولي مذهولة، مضطربة، فسيطرت الفوضى على مسار أمورها. ذهبتُ أنا إلى البقالية، ثم ملأت السيارة بالبنزين. جلبتْ زوجتي أولاد أختها الثلاثة إلى منزلنا. وتناولنا السباغيتي والطعام السريع على الرغم من الدموع والحزن. ثم أخذتُ ولديّ جاين التوأمين البالغين 16 من عمرهما بالسيارة ليزورا أمهما في المشفى بينما بقيتْ جولي مع ابن جاين ذو الثلاث 3 سنوات في البيت إلى جانب ولدينا البالغين سنتين وأربعة سنوات لينامو جميعاً. حضنتُ الأولاد الثلاثة كما تفعل عوامة الانقاذ مع الغريق. وطمأنتُ زوجتي أن الأمور ستكون على ما يرام وأننا سنتخطى هذه الأزمة. وأخبرت أم جولي أنّ الجميع بخير – وبأننا أقوياء ونسيطر على الأمور
إنّ سهولة حصولك على إحالةٍ من طبيبك العام للخضوع لجلسات علاج نفسيّ تشبه سهولة حصولك على بطاقة عضوية في صيدلية لتوزيع الماريجوانا. لطالما اعتبرتُ طبيبي العامّ شخصاً أحمقاً. كل سنة أعاني مرّتين من الجنجل، انتفاخ في طرف الجفن، فيرسلني إلى أخصّائي لإزالة المشكلة. وكل مرّة أطلب منه أن يمنحني الإحالة المطلوبة بدون ذهابي إلى عيادته كي أوفر على نفسي عناء المشوار المملّ إلى وسط المدينة، لكنه كان يرفض ويصرّ أن أزور عيادته ممّا يؤدي إلى تأجيل الموضوع برمّته شهراً كاملاً
عليّ أن أحصل على إحالة إذاً – لكني انقطعت عن الجلسات مع ذلك الطبيب النفسي، وتلك الطبيبة النفسية لن توافق على رؤيتي، وجوانا غير مشمولة بالتأمين الصحي – اضطررتُ بالنتيجة أن اذهب إلى طبيبي العامّ. حيث سألني ذاك الأحمق فيما إذا كنت أعاني من هلوسات. ذكرت له ما أعاني من قلق وتوتر ووصفت له حالتي. ففاجأني بأن أعطاني ورقة مصوّرة تحوي أسماء أطباء نفسيين بدون إبطاء. ثم أرسل لي إحالة بالفاكس للعيادة الطبيّة في بيرسون سينترد سايكوثيرابي (مركز العلاج النفسي القائم على كيفية إدراك المريض لنفسه بشكل واعٍ)، ثم بعد خمسة أيام أخبروني أنهم يستطيعون رؤيتي بعد ستة أسابيع. قال لي الموظّف هناك «الطريقة الوحيدة التي تمكننا من تسريع قبول الإحالة هي أن يكون لديك تأمين صحيّ خاصّ». ثم تمّ إخباري (من قبل الشخص ذاته) أنه يمكنني الحصول على موعد الساعة 10:45من اليوم التالي. بيروقراطية حمقاء!
تكتّلتْ عائلتي في مواجهة الأزمة التي تواجهنا بمرض أخت زوجتي. أصبحنا محاربين في وجه عدو مشترك – السرطان – وشعرتُ بأني شديد التركيز على أمور حياتي وشديد الفخر بطريقتي بالتعامل مع الأزمات. صار قلبي مملوءاً بالحب المتبادل مع أفراد عائلتي. وهكذا اختفى الملفوف والشراشف السيئة والوجوه المغطاة باللبن والأشياء الصغيرة التافهة الحمقاء من جُلّ اهتمامي وتفكيري
يقول دكتور بينويت مولسانت «فكرة ’أنا سعيد ولكن ليس إلى الدرجة التي أحلم بها‘ هي حلم خياليّ روّج له الاختصاصيون النفسيون في الستينات ليبيعوه للأغنياء. وبدافع من هذه الفكرة، ترى بعض الأشخاص يفعلون أموراً غريبة بدون مبرر كافٍ، كأن يطلّقوا أزواجهم مثلاً»، يؤكّد دكتور مولسانت رئيس قسم الطب النفسي في جامعة تورونتو وعالم جليل في مركز الإدمان والصحة النفسية على ضرورة اقتصار الطبّ النفسي الذي تغطي الدولة تكاليفه على النظر في حالات المرضى العقليين. فهو يعرف أشخاصاً أقدموا على الانتحار خلال انتظارهم الطويل للإحالة الصحية. وعندما قابلته بمكتبه في مركز الإدمان والصحة العقلية (CAMH) (حيث توجد لوحات فنية على الجدار، لكن لا توجد أريكة، فقط طاولة وكراسي)، مررتُ بجانب امرأة تضع آذان أرنب قرمزية اللون. وعندما استعملت المصعد لأصعد إلى مكتبه، كان يقف إلى جانبي رجل يرتدي الملابس المموّهة من رأسه حتى أخمص قدميه. بصراحة، كنت خائفاً لدرجة حبسِ أنفاسي إلى أن غادرت المصعد
سألته عمّا إذا كان هناك شخص لا يحتاج إلى العلاج النفسي؟ وما هي حدوده؟ ولماذا يكون أدائي رائعاً في الأزمات ولكنه سيئاً جداً الساعة 7:45 صباحاً؟ ولماذا لا أستفيد من العلاج بالدرجة التي أتمناها عِلماً أنه مفيد لدرجة ما حتى ولو كان معالجي نائماً، وهل يقدّم العلاج فائدة للّذين لا يعانون من مرض نفسي؟ أعطاني دكتور بينويت مولسانت، والذي يعتبر أحد أهم العقول في مجال الطب النفسي في البلد، نصيحة رائعة للجميع مفادها أنه حتى لو لم ينفعك العلاج النفسي فإنه لا يضرّك. خضوع الأصحاء القلقين للطب النفسي هو مجرّد رفاهية قد تكون مفيدةً لكن ليس أكثر من الجري او اليوغا، أو الوقوف على الرأس
يقول الدكتور، الحياة قاسية، لكن السعادة فيها أن تكون في عطلة من عملك، تقضيها بهناء مع عائلتك في طقس رائع. ولكن هناك أوقات أخرى تملؤها المعاناة. تلك هي الحياة
وجدت في كلامه هذا إجابة على سؤالي. الحياة مليئة بالمتناقضات بحيث أنه حتى تشيخوف لم يستطع أن يعبّر عن حياتنا هذه في أعماله. كما أخبرتني طبيبتي النفسية من مركز العلاج النفسي القائم على كيفية إدراك المريض لنفسه بشكل واعٍ أنني أبلي بلاء حسناً. عندما أتكلّم معها، تسجّل ملاحظاتها وترسم صوراً صغيرةً تمثّل شجرتي العائلية. وهي لطيفة في تعاملها معي؛ فهي تهزّ برأسها بنعومة بينما أصف الوضع الصعب الذي أعاني منه، بل أنها تبكي عندما أتحدّث عن مرض جاين الذي حلّ بنا وكيف قاومتُ هذه المصيبة لحماية عائلتي التي تعتمد عليّ. اتفقنا على اللقاء مرتين شهريّاً. كما أني سأزورها في عيد ميلادي لأنّ العلاج النفسي، كما استنتجتُ، هو خير هديّةٌ أهديها لنفسي
أنا على يقين بأنّ حياتي لن تكون بجمال وسلاسة إعلان تجاريّ للزبدة: إذ أمسك يد جولي خلال سيرنا في حقل من أزهار الأقحوان تحت الشمس الجميلة. عليّ أن استفيد من هذه المرحلة العصيبة التي تعصف بنا لأستمد القوّة الكافية لمواجهة الحياة؛ كل ما أريده يتلخّص بأن تمرّ الساعة 7:45 على روحي براحة وهدوء. هل يمكن للطبيب النفسيّ أن يساعدني؟ هل يمكنه أن يساعدك؟ من الضروري لكل رجل أن يفتح قلبه وعقله لاختصاصيٍّ نفسيّ ليقدّم له النصح والتشخيص المناسبَين. لكن لا تضع سقفاً عالياً من التوقعات – لم أتخطى أزمتي النفسية بعد، لكنّي استطعتُ أن أزيل بعض خيوط العنكبوت من ذهني لتتّضح الرؤية أمامي بشكل أفضل. إيّاك أن تستخفّ بالموضوع، هناك بعض الأمراض النفسية الخطيرة التي تحتاج إلى استشارة أطباء مختصّين لينقذوا أرواح البشر. بالنسبة لي، كل ما أريده هو أن أتعرّف على نفسي أكثر وأهدأ قليلاً وأكون أكثر صلابة في مواجهة عواصف الحياة. وأنا أحاول ذلك من خلال مقابلتي طبيبتي النفسية مرّة كل أسبوعين
الرسوم التوضيحية: إيفان كامينسكي