هل تعتقد أنّ عملك مرهِق؟ أشكر ربك بأنه ليس لديك عمل تريفور نواه. لقد تعامل طيلة السنة الماضية مع أصعب ما يمكن مواجهته في عالم الكوميديا: أن يصبح مقدّم برنامج ’ذا ديلي شو‘ بدلاً من جون ستيوارت، الكوميدي الأمريكي المبجّل الذي كان يتربّع على عرش الكوميديين الساخرين، وبشكل خاصّ خلال الانتخابات الأمريكية الأشدّ جنوناً في التاريخ الحديث. حيث وُضع هذا الأمر تحت عدسة المايكروسكوب بالنسبة للكثيرين
عندما أصبح الكوميدي المغمور البالغ 32 سنة من عمره مقدّم البرنامج، فوجئ بدايةً بصفحة الإنترنت «هو ذا هيل؟» («من أنت بحق الجحيم؟») التي تهاجمه منذ البداية. ثمّ واجه سيلاً من الانتقادات من قبيل: «شخصيته ليست بالقوة والانفعال والغضب الذين تتمتع بهم شخصية ستيوارت»، أو أنّه غير مناسب أبداً ليكون مقدّم البرنامج في أوقات عصيبة كهذه
وُلد نواه في جوهانسبرغ خلال فترة التمييز العنصري، لذا فهو يعرف طريقه تماماً عندما يكون في وضعٍ صعب. والده أبيض البشرة من سويسرا وأمه سوداء البشرة من شعب الزوسا في جنوب أفريقيا. وبما أنّ العلاقات بين العرقين كانت ممنوعة في تلك الفترة، كان وجوده غير قانوني. وكان لحسن حظه يتمتع بحسٍ من الفكاهة: فعندما لم يكن مختبئاً من السلطات المحلية، كان يراجع وينقّح مشاهده الكوميدية. في العشرينات من عمره، كان ينتقد النظرة النمطية العرقية والتمييز الطبقي بسخرية لاذعة ضمن المجموعة الضيقة من مشاهدي العروض الكوميدية ’ستاند أب كوميدي‘ في جنوب إفريقيا، ولكن وصل به المطاف إلى أن يقوم بجولات عالمية ليكون الكوميدي الأوّل من بلده الذي يؤدي عروضه في برنامج ذا ليت شو ويذ ديفد ليترمان. وهو ما يزال يؤدي عروض الستاند أب حتى الآن
منذ أول ظهور لنواه كمراسل في برنامج ذا ديلي شو عام 2014، كان من الواضح أنّ ستيوارت اعتبره خليفته القادم لعدّة أسباب. لقد رأى فيه شخصاً يحسب أموره بدقة لكن بلا تطرّف، يتفكّر مليّاً لكن بدون الوقوع في فخ المبالغة، ويدرك الفوضى الاجتماعية في أمريكا تمام الإدراك. كان ستيوارت يرى فيه الشخص الذي يحتاجه الجمهور بالضبط في هذا العالم الذي يزداد تطرّفاً في جنونه كل لحظة
مر عام على استلامك وظيفة مقدّم برنامج ذا ديلي شو. أعتقد أنّ مجلة ’جي كيو‘ وصفتْ منحك هذه الفرصة بأنها «أكبر رهان منذ أن وظّفتْ شبكة إن بي سي ’كونان‘ ليحل مكان ليترمان
أنا من أشدّ المعجبين بكونان، وأنا سعيد بصحبته! علي الاعتراف بأنك لا يمكنك تقديم برنامجٍ هامٍّ بدون أن تكون تحت مراقبة دقيقة. كان يمكن لي أن أحصل على برنامجٍ ما لا يهتم أحد بمستوى أدائي فيه، لكن عندئذ سيكون برنامجاً عادياً لا يتابعه أحد. تلك هي النعمة في تقديم برنامج هامّ ولكنها نقمة في الوقت ذاته. عليك أن تكون إيجابياً في تفكيرك وتركّز في النعمة فحسب
هل شاهدتَ برنامج ’ذا ديلي شو‘ عندما كنت في جنوب أفريقيا؟
نعم، كان برنامجاً يبثّ على القناة الإخبارية سي إن إن إنترناشونال، وبالتالي ظننتُ أنه أحد البرامج الإخبارية على تلك القناة. كنت أعتقد أنه برنامجٌ إخباري غريب الأطوار لأنّ مقدّم البرنامج كما بدا لي بسبب فهمي الخاطئ للبرنامج مهمل لا يهتم بعمله. عندما تنظر إلى البرنامج على هذا النحو تراه انتقاداً لاذعاً للأخبار. لم أكن أستطيع التمييز بينه وبين نصف البرامج التي كانت تُبثّ على قناة سي إن إن في ذلك الوقت. يدلّك هذا على الوهم الكبير الذي كنت أعيشه
لقد عانيتَ من مرحلة التمييز العنصري. شاهدتَ بلدك منقسماً بسبب الكراهية والتمييز العنصري وعدم المساواة. والآن عام 2016 تعيش في أمريكا ، هل يُشعرك هذا بوجود خلل ما في نسيج النظام في أمريكا؟
لا يشبه الأمر هنا، في الواقع، استرجاعاً كاملاً لما كان عليه الحال في جنوب أفريقيا. الأمر أشبه ما يكون بأنك ترى قطعة من بلدك في مكان آخر. من الغريب أنّ مستوى التوتّر العرقي في جنوب إفريقيا يشبه واقع الحال في أمريكا، ولكن حركة الدفاع عن الحقوق المدنية في أمريكا بدأت قبل مثيلتها في جنوب إفريقيا بسنوات طويلة . إنْ كان هناك أمرٌ أفضل في جنوب أفريقيا فهو أننا كان لدينا ’لجنة الحقيقة والمصالحة‘ لمواجهة هذه المشكلة الكبيرة. بينما نجد أنّ نصف سكان أمريكا لا يشعرون بوجود مشكلة تحتاج إلى معالجة. لا تساعد هذه اللامبالاة والجهل في إنشاء أيّ حوار فعّال. لا يشعر الناس هنا بأن العنصرية مشكلة مؤذية. لا بل هناك أشخاص هنا لا يعترفون بالحدّ الأدنى بما ارتكبتْه الحكومة في سياستها المنهجية إن كان على صعيد العنصرية أو العبودية أيضاً
يبدو أن «الرهبة من الأجانب» موضة منتشرة هذه الأيام إذا أخذنا بعين الاعتبار دونالد ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي وصعود نجم الأحزاب الوطنية عبر أوربا
الطبقة الوسطى مضطهدة في جميع أنحاء العالم. وهناك فئة صغيرة من الناس يستغلون ذلك للتحريض على حملاتٍ قائمة على الكراهية. عندما يشعر الناس بالخوف أو المعاناة، يسهل جداً إقناعهم بأن الحل لمشاكلهم يكمن في مسح فئة أخرى من الوجود. هذا ما يحصل أمام أعيننا. خذ ما حصل في المملكة المتحدة مثلاً، تمّ إخبار المقترعين بما يلي، «إن انسحبنا من الاتحاد الأوربي، ستغدق الحكومة عليكم بالأموال، ستتحسن الخدمات الطبية، وسيزداد الاهتمام بكم عندما تتقدمون بالعمر. هؤلاء المهاجرون هنا يحرمونكم من فرص العمل وهم سبب كل مشاكلكم.» وبالتالي صوّتوا لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوربي. وبعد ذلك تراجعت الحكومة عن وعودها قائلة، «أوه، لن ننفق الأموال كما وعدناكم لأننا لا نعتقد ذلك ممكناً.» إننا نعيش عصراً يشعر فيه الكثير من البشر بأنهم محرومون من حقّ التعبير عن رأيهم فيما يجري من حولهم
هناك حقيقة منتشرة على نطاق واسع في المجتمع العلمي تنفي أن يكون للعرق أيّ تأثير بيولوجي، إنه مجرّد تركيبة اجتماعية. أليس من الجنون إذاً أن نرى هذا الدور المركزي الذي ما يزال يلعبه العرق في حياتنا؟
لا أتفق مع هذا الرأي بالكامل. كل ما أظهره العلم هو حقيقة أنّ الطيور على أشكالها تقع. حتى الحيوانات التي تنتمي للنوع ذاته تجتمع مع بعضها إنْ كانت متشابهة. الأمر يتعلق بأفعالك لأننا كلنا نحاول الانتماء إلى مجموعة ما. وبما أننا نعيش في عالم يؤمن فيه الكثير من البشر بأنّ نجاحهم مرتبط مباشرة بفشل الآخرين، نجد أن الجميع يحارب في سبيل مصلحة مجموعته. لذا كي تنجح مجموعتك لا بدّ من أن تقمع مجموعة أخرى. ولقد بُنيت حضاراتٌ عظيمة اعتماداً على هذا المنطق لسوء الحظ. لا يمكنك أن تقول، ’تلك طريقة تفكير سيئة‘ لأنّ طريقة التفكير هذه هي سبب نشوء المدن التي لدينا والتكنولوجيا المنتشرة حولنا وتمتعنا بالأي فون. وبسبب هذا المنطق أيضاً لدينا تلك الأهرامات. لسوء الحظ تلبّي هذه الطريقة في التفكير مصلحة الناس. وما يزال المجتمع يحاول عبثاً أن يجد طريقة توصله إلى تلك المصلحة المرغوبة بدون دفع ذلك الثمن الباهظ من الأذى والدمار
يتم انتقادك على الدوام بأنك لا تتمتع بدرجة الغضب ذاتها التي كانت لدى جون ستيوارت. يقولون أنك لم تكتشف حدود شخصيتك بعد
طوال الفترة التي كان خلالها ستيوارت مقدّم البرنامج، كنتَ ترى سيلاً غامراً من المقالات التي تشتكي من غضبه المبالغ فيه. كانوا دائماً يعلّقون: «جون ستيوارت غير مناسب لبرنامج ’ذا ديلي شو‘ أو لأمريكا. لمَ هو غاضب على الدوام؟ لمَ لمْ يعد يلقي نكاتاً؟» إنّ موقف أولئك المتتبعين يثير السخرية: نحن نعيش الآن في عالمِ استدراجٍ الشخص الذي يتصفح الإنترنت لينقر على رابط المقال. إنْ كنتَ صحفياً، فعليك أن تبالغ فيما تكتب فتقول «إنّ الأمر سيّء جداً» أو «إنّه أكثر من رائع» لأنك تتقاضى أجرك قياساً على عدد الأشخاص الذين تصفّحوا المقال، مما ينزع عنك صفة الكتابة الموضوعية
إنّه لأمرٌ مهين أنْ تكون شخصاً بعظمة جون ستيوارت الذي استمر في تقديم برنامجه الكوميدي طوال هذه السنوات، ولا يتذكرك الناس إلا بأنك الشخص الغاضب على الدوام. عندما تسأل الناس عن أروع اللحظات التي شاهدوها في البرنامج، تجدهم لا يتذكرون شيئاً. سيخبرونك فقط كم كان ستيوارت يشبه شخصاً غاضباً في خِضمّ تبادلٍ لإطلاق النار أو يشبه المذيع بيل أوريلي. لكن لن يخبرك أحد عن النكات التي يتذكرها من البرنامج مع أنه كان حافلاً بهذه النكات. أوافقك الرأي بأنه كان هناك لحظات من الغضب والسخط، ولكن محور البرنامج كان في جعل المشاهدين يضحكون وفي تأمين نوع من التنفيس العاطفي لهم. إذاً، إنْ كنتَ تعتقد أنني خلال عام واحد سأقدّم لك كل ذلك الكمّ الهائل من الغضب والإضاءات التي قدّمها البرنامج خلال 16 عاماً، فستكون مخطئاً؛ لن أستطيع فعل ذلك أبداً. ولن أعتذر عن ذلك أبداً لأنني لا أنوي مطلقاً أن أكون نسخة عن غيري، إنني هنا أحاول تقديم برنامج حقيقي
أشعر أنك شديد الاهتمام بالأمور الصغيرة ظاهرياً ولكنها قادرة على أن تُحدِث فارقاً
نعم، نحن نفتقر إلى هذا الأمر في الكثير من الأماكن. من السهل أن تصرخ بغضب، ولكن أين سيوصلك هذا الأمر؟ تختار أحد طرفي الصراع وتبدأ بالصراخ – هل تنفع هذه الطريقة في الوصول إلى حلّ ما؟ وما نتيجة ذلك؟ يمكنك رؤية الحالة التي وصلت إليها أمريكا الآن. خذ مثلاً حالة إطلاق النار من قبل الشرطة التي حدثت في دالاس وما أدّت إليه من تهديم في البنية الاجتماعية هناك. لقد كان رجال شرطة دالاس من أفضل رجال الشرطة، يتمتعون بأنظمة ووسائل تساعدهم على مواجهة أية مشكلة تواجههم في عملهم. والآن كيف هو الحال؟ بسبب رجل واحد مشحون بالغضب انتشر الغضب في كلا الجانبين وغيّر مجرى الحديث وما كان يُفترَض أن يناقشه الناس
لقد قلتَ مؤخراً في ’ذا ديلي شو‘ أنّ الناس يشعرون بأنك إما أن تكون مع رجال الشرطة كلياً أو مع قضيّة الدفاع عن حياة السود، في حين يمكنك أن تكون مع الطرفين في الوقت ذاته. لمَ يفتقر المجتمع الأمريكي إلى لغة الحوار وتقبّل الآخر هذه الأيام؟
يعود السبب في ذلك على الأغلب إلى أن الناس يحصلون على الأخبار التي تروق لهم. أنت معتاد على تلقي الأخبار. والآن يحصل كل شخص على الأخبار التي يريدها هو. يقوم فيسبوك بفلترة الأخبار التي ينقلها إليك بحيث يمرر لك الأخبار التي يعتقد أنك تريد سماعها فقط. مثلاً، إن أردتَ أن تشاهد الأخبار من وجهة نظر المحافظين، تابع قناة فوكس، وإن كنتَ تريد الأخبار من وجهة نظر الليبراليين، تابع قناة إم إس إن بي سي. أين الحقيقة إذاً؟ يبدو أنّ الحقيقة اختفت تماماً، وهذا يشكّل مشكلة كبيرة
هل شكّلتْ نشأتك في بيئةٍ متعددة الأعراق السبب في قدرتك على رؤية هذه الظلال المتعددة من اللون الرمادي؟
نعم، مصدر هذه الطريقة في التفكير هو جنوب إفريقيا الذي علّمَنا قيمة الحوار مع الآخر. يشكّل هذا الأمر أساس نظامنا الديمقراطي. قد لا تكون لديك وجهة النظر ذاتها مع بعض الأشخاص، لكنّ هذا لا يمنع من ضرورة تواصلك وحوارك معهم. كان نلسون مانديلا خير مثال على ذلك. حتى عندما أتى مانديلا ليستلم السلطة، فاوض الأشخاص الذين كانوا يمسكون زمام الأمور في ذاك الوقت مع أنه لم يكن مرغماً على القيام بذلك. أقصد أنّ الجميع كان سيبرر له سعيه إلى حرب أهلية في جنوب أفريقيا لاستلام السلطة. لكنه فاوض. لمَ فعل ذلك؟ لمَ تحاوَر مع الأشخاص الذين قمعوه في الماضي؟ لأنه أدرك دور الحوار في تحقيق الغاية المرجوّة – وفي منح الشخص قدرة أكبر ليفهم بعمق كيف وصل إلى ما هو عليه